من الصعب حقًّا في أوقات كهذه أن تكبر فينا المُثُل العليا والأحلام
وأعزّ آمالنا، فقط كي يسحقها هذا الواقع المرير. بل إنّه لعجبٌ أنني لم
أتخلَّ عن مُثُلي بعد، فهي تبدو سخيفةً وغير عملية. ومع ذلك، فأنا سأبقى
متشبّثةً بها، لأنني ما زلت أؤمن ورغم كل شيءٍ أنّ الناس طيبون حقًّا.
ورغم كل البؤس والمعاناةمن الصعب حقًّا في أوقات كهذه أن تكبر فينا
المُثُل العليا والأحلام وأعزّ آمالنا، فقط كي يسحقها هذا الواقع المرير.
بل إنّه لعجبٌ أنني لم أتخلَّ عن مُثُلي بعد، فهي تبدو سخيفةً وغير
عملية. ومع ذلك، فأنا سأبقى متشبّثةً بها، لأنني ما زلت أؤمن ورغم كل
شيءٍ أنّ الناس طيبون حقًّا. ورغم كل البؤس والمعاناة التي تحصل، فأنا لا
أفكّر إلا بالجمال الذي ما زال قائمًا. فما حدث قد حدث، ولا يمكن إلغاؤه،
لكن من الممكن منع حدوثه مرّةً أُخرى.
هذا بعض ما كتبته الطفلة آنيليس ماري فرانك المعروفة بآنا فرانك في
مذكراتها وهي بعمر 13 عامًا. وذلك حينما كانت مختبئةً في مستودعٍ سريٍّ
إبان الاحتلال الألماني لأمستردام خلال الحرب العالمية الثانية. فآنّا هي
طفلة يهودية اختبأت مع عائلتها مدّة عامين متتالين، خوفًا من القوات
الألمانية وعنصريتها. وهناك قامت بكتابة مذكّراتها وأحلامها وبعض القصص
القصيرة على مفكّرةٍ مخطّطةٍ أهداها إياها والدها. لتتوقف فجأة عن
الكتابة في آب عام 1944، وذلك عندما تعرضت عائلتها للخيانة، فاعتقلت
وأُرسِلت في النهاية إلى معسكر الموت في أوشفيتز. وهناك لقيت حتفها مع
أختها وأمها، لينجو الأب ويعود لينشر مذكّراتها.
لكن لم نحيي ذكراها دون غيرها، فآنا ليست الوحيدة التي كتبت واصفةً فظاعة
الوضع في تلك الأيام. نحن نحيي ذكراها اليوم كمقدمة لمقالنا عن معسكر
أوشفيتز لأنّ كلماتها كانت مليئة بالحب والشجاعة والأمل والحلم بمستقبلٍ
مشرق حتى عندما كانت تواجه الخوف والموت المحدق بها. لذلك أصبحت رمزًا
لمعاناة اليهود وخاصة الأطفال خلال تلك الحرب القذرة.
معسكر أوشفيتز
تلك الجدران المحصّنة والأسلاك الشائكة، الثكنات العسكرية والمنصّات، غرف
الإعدام بالغاز وأفران حرق الجثث، هي الظروف التي حصلت فيها عمليات
الإبادة الجماعية النازية، في معسكر أوشفيتز المعروف أيضًا باسم "أوشفيتز
بريكيناو"، أكبر معسكرٍ للاعتقال والإبادة في الرايخ الثالث أو ما يُعرف
بألمانيا النازية. وهو واحدٌ من ستة معسكرات أنشأها النازيّون لتنفيذ
سياسة " الحل النهائي" التي وضعها هتلر وأعوانه بهدف القتل الجماعي للشعب
اليهودي الموجود في أوروبا.
ووفقًا للتحقيقات التاريخية، فإنّ قرابة 1.5 مليون إنسانٍ أغلبهم من
اليهود قد خضعوا للتعذيب والتجويع الممنهج والإعدام في هذا المعسكر.
ويعتبر رمزًا لقسوة ووحشية الإنسان تجاه أخيه الإنسان في القرن العشرين.
تطوّر الموقع
كان أوشفيتز في الأصل ثكنة عسكرية للجيش البولندي في جنوب البلاد، ثم
قامت ألمانيا النازية بعد عامٍ من غزو بولندا واحتلالها عام 1939 بتحويل
الموقع إلى مركز اعتقال للسجناء السياسيين، حيث أُطلِق حينها على هذه
المنطقة اسم أوشفيتز I والتي اشتهرت بالعبارة الألمانية القائلة "العمل
سيحررك" المكتوبة كذبًا على المداخل.
وفيما بعد، قامت القوات الألمانية بتطوير الموقع بشكلٍ كبير كنتيجة
لتطوّر الحرب وازدياد عمليات القتل. ويمكن القول أنّ أول مجموعة أُعدِمت
بالغاز في هذا المعسكر كانت من البولنديين والسوفييت عام 1941. بعد شهرٍ
من هذه الحادثة، بدأ العمل بالمعسكر الجديد المعروف بـ أوشفيتز II أو
أوشفيتز بريكيناو، والذي ضمّ غرفًا ضخمة للإعدام بالغاز قُتِل فيها مئات
الآلاف من البشر، وغرف المحارق والأفران لحرق جثثهم. وفي نهاية المطاف،
عندما قامت القوات السوفيتية بتحرير المعسكر، كان يتألف حينها من ثلاثة
معسكرات رئيسية وأكثر من 40 معسكرًا فرعيًا.
قتل ممنهج بين جدران أوشفيتز
كان يصل الناس إلى المعسكر من كلّ أنحاء أوروبا، محشورين في عربات مخصصة
لنقل الماشية بالأصل، دون نوافذ أو مراحيض أو مقاعد أو طعام. وفور وصولهم
يتم فرزهم حسب قدرتهم على العمل، بحيث يتم استخدام القادرين على العمل
للعمل سخرة كعبيد في بعض المنشآت والمصانع التي أُقيمت بالقرب من
المعسكر، كمصنع المطاط التي أقامته الشركة الألمانية للكيماويات IG
Farben، والمصانع التابعة لبعض الشركات الخاصة كشركة Krupp وشركة
Siemens-Schuckert وغيرها من الأعمال. أما غير القادرين على العمل
فيقتلون على الفور، بحيث يتم تجريدهم من ملابسهم وإرسالهم "للاستحمام"
بهدف "تفلية القمل"، لكن بالطبع فهذه عبارات مضللة استخدمها النازيون
عمدًا، وفي الحقيقة يتم إرسالهم مباشرةً إلى غرف الإعدام بالغاز.
وهناك، في الغرف المشؤومة المغلقة، يقوم حرّاس من "هيئة النظافة" على حدّ
زعمهم، بإلقاء قنابل قوية من غاز Zyklon-B (الاسم التجاري لغاز سيانيد
الهيدروجين) على السجناء، ثمّ ينتظرون موت الناس. وعادةً ما يستغرق الأمر
حوالي 20 دقيقة. وعلى الرغم من سمك الجدران المهيبة إلّا أنّها لم تستطع
إخفاء صراخ الأطفال والنساء الذين يختنقون في الداخل. ثمّ يُجبَر سجناء
آخرون على إزالة الأطراف الإصطناعية والنظّارات والشعر والأسنان من الجثث
قبل جرّها إلى المحارق. وبعد حرق الجثث، يدفن رمادها أو يستخدم كسماد.
ماذا عن الضحايا؟
عندما اقتربت القوات السوفيتية من تحرير المعسكر، سعى حينها الحراس
التابعون للقوات الخاصة (SS) بقيادة هاينريش هيملر Heinrich Himmler
لإخفاء جرائمهم وإتلاف سجلات السجناء الكبيرة، بالتالي غدا من الصعب
تحديد عدد الضحايا بشكل دقيق. لكنّ الدراسات الأكاديمية توافق منذ ذلك
الحين على أنّ عدد الواصلين إلى أوشفيتز قارب 1.3 مليون شخص، وعدد من مات
منهم في المعسكر حوالي 1.1 مليون إنسان. حيث شكّل اليهود الغالبية العظمى
من الضحايا بعدد قتلى يقارب المليون.
بالطبع فإنّ هؤلاء اليهود كانوا من مختلف أنحاء أوروبا، وإن أردنا فرض
مثلٍ فلنقل هنغاريا (المجر)، التي أُرسِل منها بغضون شهريّ أيار وحزيران
فقط من عام 1944 ما يقارب 420,000 شخص إلى معسكر أوشفيتز. أي أنّ عشرات
الآلاف من اليهود المجريين كانوا يصلون إلى أوشفيتز كل يوم، فيقتل ثلاثة
أرباعهم فور وصولهم.
لم يقتصر الأمر على اليهود، فقد قُتل حوالي 75000 مدني بولندي، و15000
أسير سوفييتي، و25000 شخص من روما والسنتيين (الغجر)، بالإضافة إلى قتل
الآلاف من شهود يهوه والمثليين الجنسيين والسجناء السياسيين.
التجارب الطبية في أوشفيتز
لم تقتصر الفظائع التي حصلت في أوشفيتز على التعذيب والتجويع والقتل فقط،
وإنما امتدت لتشمل بُعدًا لا أخلاقيًا آخر، حيث لعب الأطباء التابعون
لقوى الأمن الخاصة والموظفون في أوشفيتز دورًا خاصًّا، وذلك بإجراء تجارب
طبية جنائية على السجناء، وارتكاب أفعالًا أُخرى تنتهك الأخلاقيات
الطبية. ومن هذه التجارب:
تجارب التعقيم sterilization (إلغاء القدرة على الإنجاب)
قام العديد من الأطباء بإجراء تجارب التعقيم على مئات السجناء الإناث
منهم والذكور. حيث قام الطبيب كارل كلاوبيرغ Carl Clauberg بتطوير طريقة
تعقيم عام غير جراحي عند النساء، تتضمن إدخال مادة كيميائية مهيّجة إلى
الأعضاء التناسلية للإناث، فتسبب حصول التهابات شديدة. ثم وفي غضون عدّة
أسابيع، تنغلق قناة فالوب وتنسدّ. ماتت بعض النساء مباشرة إثر هذه
التجارب، في حين تمّ قتل الأُخريات بغية تشريح الجثث.
بالإضافة إلى كلوبيرج، فإنّ الطبيب هورست شومان Horst Schumann كان يبحث
أيضًا عن وسائل علمية مناسبة للتعقيم الشامل، والتي من شأنها أن تمكّن
الرايخ الثالث من تنفيذ التدمير البيولوجي للدول التي احتلتها، من خلال
تدمير القدرة الإنجابية للناس، حيث قام بدراسة إمكانية التعقيم باستخدام
الأشعة السينية، فعمد إلى تعريض مبايض الأنثى وخصيتي الذكر لهذه الأشعة،
وطبّق كثافات مختلفة على فترات زمنية مختلفة، بغية الوصول إلى الجرعة
المثالية من الإشعاع.
أدّى هذا التعرض للإشعاع إلى حروقٍ شديدة في مناطق البطن والأربية
والأرداف، وتقرحات متقيحة مستعصية على الشفاء، فمات العديد من المرضى من
المضاعفات الحاصلة. وبالطبع فإن نتائج التعقيم بالأشعة السينية كانت غير
مرضية وتمّ التخلي عنها.
التجارب على ذوي الاحتياجات الخاصة والأطفال
كان الطبيب يوزاف منغيله Josef Mengele مهتمًا بظاهرة التوائم، فقام
بإخضاع أزواج التوائم لفحوصات وتجارب طبية خاصة، والتي كانت مؤلمة جدًّا
ومرهقة. هذه التجارب كانت المرحلة الأولى من أبحاثه، وعند انتهائها، تبدأ
المرحلة الثانية بقتل هذا التوأم عن طريق حُقَن الفينول، ثم تشريح الجثث
لمقارنة الأعضاء الداخلية.
وقام أيضًا بإجراء العديد من التجارب على أطفال الغجر المصابين بمرض
"نوما"، وهو مرض انتشر في معسكر أوشفيتز، ثم أُعدِم هؤلاء الأطفال بغية
إرسال أعضائهم للتشريح. ومن الأمور التي قام بتجربتها أيضًا حرمان
الأطفال حديثي الولادة من الرضاعة، بغية معرفة كم من الوقت يستطيع الطفل
البقاء على قيد الحياة دون طعام.
بالإضافة إلى الأطفال والتوائم قام بدراسة ظاهرة التقزم، لذا كان يختار
الأقزام والأشخاص ذوي الإعاقات الجسدية لإجراء التجارب المختلفة عليهم.
التجارب على الجوعى
لم يكن الإنسان لينتهي من تلك الوحشية حتى بعد موته. فبعد تجويع السجناء
وقبل وصولهم للموت بسبب الجوع، يُقتَلون بحُقِن الفينول، بغية إجراء
الأبحاث حول التغيرات الوظيفية التي تحدث في الكائن الحي نتيجة الجوع،
كضمور الكبد. فيتم تشريح الجثث قبل أن تبرد لدراسة الأعضاء المختلفة
كالكبد والطحال والبنكرياس. أما المسؤول عن هذه التجارب فقد كان الطبيب
يوهان كريمر Johann Victor Krämer.
دراسة فعالية الأدوية
قام مجموعة من الأطباء بالتعاون مع بعض الشركات الدوائية بإجراء
الاختبارات السريرية لدراسة فعالية الأدوية والعقاقير الجديدة. وذلك من
خلال إعطائها للسجناء الذين تعرضوا للإصابة المتعمدة بالمرض، أو الذين
يعانون من أمراضٍ معدية.
بالإضافة إلى ما ذُكر، فإنّ هناك العديد من التجارب الأُخرى التي كانت
تُجرى بشكل منافٍ للإنسانية. وبعد تحرير المعسكر، حكم التاريخ على
الأطباء الذين شاركوا في هذه التجارب كأطباء مجرمين وقتلى.
اقتراب النهاية
للأسف، فإنّ المعاناة لم تنتهِ مباشرةً؛ فمع تقهقر القوات الألمانية
وتراجعها غربًا خلال الأشهر الأخيرة من الحرب، ومع اقتراب قوات التحالف
من المعسكر، قام النازيون بآخر محاولاتهم اللاإنسانية لإخفاء الشهود،
واستغلال عمالة اليهود والمساجين من معسكرات الاعتقال. لذا قاموا بتنظيم
قسمٍ من السجناء ونقلهم إلى معسكرات أُخرى في ألمانيا والنمسا، عن طريق
مسيرات طويلة الطوابير استمرت لعدة أسابيع في البرد القارس.
يمكن تسمية هذه المسيرات بـ"مسيرات الموت"، فقد مات خلالها عشرات الآلاف
من الناس بسبب الظروف المروعة التي واجهوها أثناء السير على الأقدام، أو
خلال حشرهم في عربات النقل، أو نتيجة قتلهم على أيدي الحراس. وعُثِر
لاحقًا بعد انتهاء الحرب على مقابر جماعية تحتوي آلاف الضحايا على طول
طرق تلك المسيرات.
تحرير أوشفيتز
عندما وصل جنود السوفييت إلى معسكر أوشفيتز قبل 75 عامًا في كانون الثاني
عام 1945، وجدوا مستودعات مليئة بكميات هائلة من ممتلكات الآخرين،
كالأطراف الصناعية والنظارات والأحذية والثياب وغيرها. معظم أصحابها
قُتِلوا على أيدي النازيين في أكبر معسكر للقتل والإبادة في تاريخ الحرب.
بدا المعسكر صامتًا ومهجورًا، لكن سرعان ما اكتشفت القوات السوفيتية أنّه
مليءٌ بآلاف الناس الذين تُرِكوا للموت بعد أن أخلت القوات الخاصة
الألمانية الموقع. وربما لم يتوقع أولئك السجناء أن يرووا النور مجددًا،
لذا وعند رؤية الجنود انهمروا في البكاء والعناق.
لكن بالطبع فإن القوات الألمانية كانت قد دمرت جزءًا كبيرًا من المعسكر
قبل انسحابها، كمحاولةٍ لإخفاء ما فعلت، حيث قاموا بإتلاف ممنهجٍ لسجلات
السجناء، وأعدموا السجناء اليهود ممن كان يعمل في المحارق، كما دمّروا
معظم مواقع القتل والعديد من المباني، واتخذوا بعض الإجراءات اللازمة
لنقل ما نهبوه من اليهود من المناطق المختلفة الأُخرى. أما بالنسبة
للسجناء الـ9000 الذين وجدوا بالمعسكر فكانوا في حالة صحية يُرثى لها،
فلا طعام ولا ماء ولا وقود، لكنهم نالوا حريتهم بعد 5 سنوات من أفظع
السنين التي يمكن أن يتخيلها إنسان.
الحرب قذرة
تشكّل جرائم ألمانيا النازية في معسكر أوشفيتز مثالًا عن سلوكها في كل
المعسكرات الأخرى، فهي قتلت ملايين اليهود والغجر والمجريين وغيرهم. كما
قتل الجنود الألمان النساء والشيوخ والأطفال في المعارك، وقصفوا المدنيين
العُزّل واغتصبوا النساء ودمّروا المدن. وهذا ما نعرفه جميعًا، فيكفي أن
نسمع بمصطلح "النازية" حتى نشعر بالخوف أو الارتباك أو القلق. لكن، ماذا
عن جرائم الآخرين!
قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإلقاء القنابل الذرية على مدينتي
هيروشيما وناجازاكي في اليابان، وقامت أيضًا باستحضار العلماء والأطباء
الألمان، ذوي التاريخ الأسود في التعذيب والتجارب القاتلة على الأطفال
للاستفادة من أبحاثهم. كما قام الجنود السوفييت بعد الانتصار في المعارك
باغتصاب مئات الآلاف من النساء الألمانيات. ومثلهم مثل اليابانيين الذين
ارتكبوا فظائع مروعة خلال الحرب، وهم معروفون بمعاملتهم الوحشية للأسرى،
وربما أغلبنا قد سمع بالوحدة اليابانية 731 . وغيرها الكثير من الجرائم
المنسية المرتكبة من قبل جميع الأطراف.
بالمختصر لسنا بوارد سرد ما تمّ ارتكابه من جرائم وانتهاكات إنسانية
وغيرها أثناء الحروب، لكن وكما يقال فإنّ المنتصر يكتب التاريخ، ولو
انتصرت ألمانيا في تلك الحرب لما كنا سمعنا اليوم بمعسكر أوشفيتز، بل
لربما كنا نكتب مقالًا الآن عن الجرائم المرتكبة في معسكرات قوى التحالف!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق