تحدثنا في المقالين السابقين، عن كيفية اكتشاف البشر للإنتروبي وطبيعتها،
وبعض ما قادت إليه من فهم عميق للعديد من الظواهر في الكون. ولكن القصة
لا تنتهي هنا. الإنتروبي من العشوائية إلى سهم الزمن والكوزمولوجيا ..
الإنتروبي.. أكثر من مجرد مقياس للفوضى! في هذا المقال، والذي يمثل آخر
مقال في هذه السلسلة، سنتعرف على المزيد منتحدثنا في المقالين السابقين،
عن كيفية اكتشاف البشر للإنتروبي وطبيعتها، وبعض ما قادت إليه من فهم
عميق للعديد من الظواهر في الكون. ولكن القصة لا تنتهي هنا.
الإنتروبي من العشوائية إلى سهم الزمن والكوزمولوجيا ..
الإنتروبي.. أكثر من مجرد مقياس للفوضى!
في هذا المقال، والذي يمثل آخر مقال في هذه السلسلة، سنتعرف على المزيد
من المعاني التي تأخذها الإنتروبي، وكيف أصبحت جزءاً لا غنىً عنه من
نظرية المعلومات 1 ودراسة التشابك الكمومي 2 ، إضافة لحديثنا عن إحدى
أكبر الأخطاء الشائعة حول الإنتروبي والقانون الثاني في الترموديناميك.
الإنتروبي كمقياس للمعلومات…وللجهل أيضاً!
كنا قد تحدثنا سابقاً عن المعنى العميق للإنتروبي، وسنذكّر به سريعاً في
هذا المقال من خلال اقتباس فقرة هامة من المقال السابق:
" لنتخيل أن لدينا وعاءً ذو حجم ثابتٍ يحوي كميةً معينةً من بخار الماء،
موجودة في حالة توازن، أي لها نفس درجة الحرارة والضغط في كامل أجزائها.
سنلاحظ عندها أننا نصف هذه الكمية المحددة من بخار الماء بقيمة محددة
لحجمها، وقيمة تعطينا ضغطها، إضافة لقيمة تعطينا درجة حرارتها. ونقول أنّ
هذه القيم تعين حالة محددة لبخار الماء. وكلما تغيرت واحدة أو أكثر من
هذه القيم، ستتغير حالته. والآن، لو تساءلنا هنا يا ترى، وبما أن بخار
الماء مكون من عدد هائل للغاية من الجزيئات، فبكم طريقة يمكن أن تترتب
مواضع هذه الجزيئات وسرعاتها داخل هذه العينة، كي تعطينا هذه القيم
المحددة للضغط والحجم ودرجة الحرارة؟ من الواضح أنه عدد كبير للغاية من
الطرق. وهذا العدد يدعى بالوزن الإحصائي لهذه الحالة لبخار الماء. وبشكل
أعم، إذا كانت لدينا جملة معينة في حالة توازن، فإن عدد الطرق التي يمكن
أن تترتب فيها مواضع وسرعات الجزيئات أو الذرات المكونة لها كي تعطي حالة
محددة للجملة (ولنتذكر أن هذه الحالة تحدد بدرجة حرارة معينة وحجم ومعين
و…الخ) يدعى بالوزن الإحصائي لهذه الحالة.
وبما أنه لا يوجد لدينا أي سبب يجعلنا نميز إحدى طرق ترتيب الجزيئات عن
غيرها وذلك من ناحية احتمالية حدوثها، لذلك ينتج أن الحالات التي لها وزن
إحصائي أكبر (أي يمكن أن نحصل عليها بعدد كبير من الطرق لترتيب الجزيئات)
ستتمتع باحتمال أكبر للحدوث…وفي نفس الوقت، فالحالات ذات الوزن الإحصائي
الأكبر تتمتع بإنتروبي أعلى، أي بكلمات أخرى، فإن الحالات ذات الإنتروبي
الأعلى لها احتمال أكبر للحدوث! … معنى ذلك أن الجمل تسعى لأن تكون في
الحالات ذات الإنتروبي الأعلى لأنها ببساطة هي الحالات ذات الاحتمال
الأكبر في الحدوث، وحالة التوازن في الجمل المعزولة والتي تقابل قيمة
عظمى للإنتروبي لها أكبر احتمال في الحدوث بين جميع الحالات!".
يتبين مما سبق، أنه كلما كانت الجملة في حالة ذات إنتروبي أعلى، كلما كان
عدد الطرق الممكنة كي تترتب مواضع جزيئاتها وسرعاتها لتعطي هذه الحالة
أكبر. ولكن ولكوننا عاجزين عن معرفة ما هو ترتيب الجزيئات الفعلي من بين
كل تلك الحالات، فنحن في حالة جهل هنا بالتفاصيل المجهرية للجملة. وكلما
كبرت الإنتروبي، سيكبر هذا الجهل، لأن عدد الحالات الممكنة كي تكون فيها
الجملة هو أكبر ببساطة. وبذلك، فالإنتروبي وفقاً للفيزياء الإحصائية،
تمثل فعلياً مقياساً لجهلنا عن التفاصيل المجهرية في بنية الجملة قيد
الدراسة.3
هل فاجأكم ذلك؟ إذاً استعدوا لمفاجأةٍ أكبر، ألا وهي أن الإنتروبي تمثل
في نفس الوقت مقياساً للمعلومات! ولكن كيف يمكن ذلك؟
في الواقع، إن الفكرة الرئيسية لنظرية المعلومات، هي أن القيمة
المعلوماتية لأي رسالة تصلك (أي كمية المعلومات التي تمدّك بها)، تعتمد
على مدى مفاجأتك بما ورد في الرسالة. وبالتالي، كلما كانت قدرتنا على
التنبؤ بما تحتويه الرسالة أقل، كلما كانت قيمتها المعلوماتية أعلى.
على سبيل المثال، لنفرض أنك تلقيت رسالة على شكل سلسلة من الأحرف
والفراغات بينها والمرتبة عشوائياً تماماً، يقوم بطباعتها قرد على آلة
كاتبة. إن هذه الرسالة لا تحمل لك أية معلومات على الإطلاق، وهو تماماً
ما ستتوقعه من هذا القرد. ولكن، لنفرض الآن أن القرد طبع لك رسالة مكتوبة
بدقة وبلغة مفهومة وواضحة، عندها ستكون مفاجأتك عظيمة، وستعلم بأن هناك
أمراً ما غريباً في هذا القرد، وهنا تكون قد حصلت على معلومات ثمينة
للغاية!
ولكن، وبما أنه كلما كبرت إنتروبي حالة ما، كلما قلت معرفتنا عنها وفق ما
ذكرنا في الأعلى، لذلك فستكون قدرتنا على التنبؤ حول هذه الحالة أقل،
وبالتالي ستحتوي على كمية أكبر من المعلومات. 4
وهكذا لا نرى أي تناقض بين كون الإنتروبي مقياساً لجهلنا، وفي نفس الوقت
هي مقياس لكمية المعلومات (طبعاً هناك صياغة أكثر إحكاماً لما سبق،
ولكننا مضطرون في هذا المقال للتبسيط الشديد لكونه مقالاً لغير المختصين،
لذلك أطلب العذر من القارئ سلفاً على التبسيط المفرط).
الإنتروبي كمقياس للتشابك في ميكانيك الكم
والآن، سنتحدث في هذه الفقرة عن إحدى أغرب الظواهر في ميكانيك الكم 5
(وهو النظرية التي تفسر لنا سلوك الذرات والجزيئات والجسيمات ما دون
الذرية)، ألا وهي ظاهرة التشابك الكمومي. 6
يحصل التشابك الكمومي، عندما وعلى سبيل المثال، يتفاعل جسيمان مع بعضهما
(ويمكن أن يكونوا أكثر من جسيمين) بحيث لا يعود ممكناً وصف حالة أحدهما
بشكل مستقل عن وصف حالة الآخر، وبالتالي سيؤثر قياسنا لأحدهما على نتيجة
قياس الآخر، مهما كانت المسافة المكانية الفاصلة بينهما.
وكي لا نغوص في شرح مفاهيم اختصاصية في ميكانيك الكم، سأحاول شرح التشابك
الكمومي لكم بمفاهيم من الحياة اليومية.
لنتخيل أنه لدينا قطعتان من النقود، وكل منهما ستعطي لدى رميها صورة أو
كتابة. والآن، سنتخيل أن الأجسام في حياتنا اليومية تتصرف كالجسيمات دون
الذرية تماماً. لنفرض أننا قمنا بإبعاد إحدى قطعتي النقود إلى كوكب زحل،
في حين تركنا الأخرى على الأرض. والآن، لو لم تكن قطعتا النقود
متشابكتين، فلن يحصل شيء غريب حقاً، ونتيجة رمينا لإحداهما، لن تؤثر على
نتيجة رمي الأخرى. ولكن، لو كانت القطعتان متشابكتين، فستختلف القصة
تماماً: فعند إجراء تجربة رمي القطعتين سنجد أنه إذا ما كانت نتيجة
الرمية على الأرض هي صورة، فستكون نتيجة الرمية على زحل هي كتابة حتماً،
والعكس بالعكس! فكيف ذلك؟ وكيف تعلم قطعة النقود على زحل بما حل بقطعة
النقود على الأرض، وبالعكس؟
إن هذا بحد ذاته هو موضوع شيق للغاية، ولكنه يخرج عن سياق المقال الحالي
لذلك سنتركه لوقت آخر. ولكن من المهم التنويه أن التجارب التي أجريت في
المختبر لم تكن بالطبع على قطع النقود، فمثالنا هو مجرد تجربة تخيلية. بل
كانت التجارب تقوم بقياس خواص كالاستقطاب 7 والسبين 8 وغير ذلك للجسيمات
دون الذرية، وقد أكدت هذه التجارب كلها حقيقة التشابك الكمومي فعلاً. 9
ولكن، ما دخل الإنتروبي في كل ما سبق؟
في الواقع، إن التشابك هام للغاية، ونحن بأمس الحاجة لإعطاء قيمة عددية
تحدد لنا درجة تشابك جسيمين بالضبط. وهناك بالفعل العديد من المقاييس
لذلك، إلا أن أحد أهمها وأكثرها استخداماً، هو قياس ما يدعى بإنتروبي
التشابك. 10 لن أغوص في هذا المفهوم هنا، ولكن ما أريد قوله هو أن هذه
الإنتروبي ستكون معدومة لو لم يكن الجسيمان متشابكين، في حين أنها ستأخذ
قيمة عظمى عندما يكون تشابكهما أعظمياً، وهنا نجد أن استخداماً جديداً
تماماً للإنتروبي قد ظهر، مما يرينا وبوضوح كبير مدى أهمية وعمومية مفهوم
الإنتروبي بالفعل!
ميكانيكا الكم من البداية وحتى اليوم
هل يتناقض وجود الكائنات الحية المعقدة والمنظمة مع القانون الثاني في
الترموديناميك؟
هناك مغالطة شائعة حول القانون الثاني في الترموديناميك، وهي في العادة
تصاغ كما يلي: "بما أن القانون الثاني في الترموديناميك يخبرنا بأن
الإنتروبي في ازدياد، أي أن العشوائية في ازدياد، فكيف يمكن أن تظهر
تلقائياً حياة معقدة ومنظمة في الكون؟"
في الواقع إن هذا السؤال مبني على سوء فهم للقانون الثاني في
الترموديناميك. فهذا القانون ينص، وكما بينا في المقالين السابقين في هذه
السلسلة، على أن الإنتروبي تتزايد حتى تصل قيمة عظمى في الجمل المعزولة .
وركزوا هنا على كلمة معزولة . أما في الجمل غير المعزولة، فيمكن أن
تتناقص الإنتروبي، شريطة أن تتزايد في محيطها بمقدار أكبر أو يساوي
تناقصها في الجملة نفسها، وذلك لأن الجملة ومحيطها تشكلان ككل جملة
معزولة هي الكون بأسره.
وكمثال عملي على ذلك، الثلاجة تنقص من الإنتروبي داخل حجرة الثلاجة لأنها
تضخ الحرارة منها (البارد) إلى الوسط المحيط (الساخن)، ولكن ذلك يتم على
حساب تزايد في الإنتروبي نتيجة عمل محرك الثلاجة نفسه، وما عليك للتأكد
سوى أن تضع يدك خلفها عند تمديدات الأنابيب لتحس بالحرارة المنبعثة منها؛
فالإنتروبي تتزايد في الجملة ككل (حجرة الثلاجة مع محيطها) في حين أنها
تتناقص داخل حجرة الثلاجة نفسها. وبنفس الطريقة، يمكن للعمليات
الكيميائية والحيوية أن تشكل بنىً أعقد وأعقد منقصة الإنتروبي داخل بعض
أجزاء الكائن الحي مثلاً، إلا أن ذلك يتم على حساب زيادة الإنتروبي في
المحيط، وما الحرارة التي تطلقها أجسامنا سوى أحد التعابير عن هذه
الزيادة المذكورة.
شياطين ماكسويل والقانون الثاني في الترموديناميك
خاتمة
في الختام أود التأكيد، بأن كل ما ذكرناه في هذه السلسلة لا يغطي كامل
مفهوم الإنتروبي. فنحن لم نتطرق لأهمية الإنتروبي في صياغة القانون
الثالث في الترموديناميك 11 ولا في حاجتنا لها لنشكل فهماً عميقاً للفارق
بين الحوسبة العكوسة والحوسبة اللاعكوسة 12 ، إضافة للعديد من
الاستخدامات الأخرى لها. إلا أنني أتمنى أن أكون قد تمكنت من أن أوصل لكم
عبر هذه السلسلة فكرةً – مهما كانت بسيطة – عن الأهمية الفائقة لمفهوم
الإنتروبي في الفيزياء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق