فيلم The Double Life of Veronique .. امرأتان تحملان نفس الاسم، واحدة
تعيش في بولندا والأخرى في فرنسا. لا تعرفن بعضهن، لكن يجمع حياتهن رابط
شعوري غامض يتعدى حدود اختلاف المكان واللغة.احتفالاً بذكري ميلاد
السينمائي العظيم كريستوف كيشلوفسكي، نحاول إعادة قراءة واحد من روائعه،
وهو فيلم "الحياة المزدوجة لفيرونيكا".
اليوم، كيشلوفسكي معروف بثلاثية الألوان التي صنعها في فرنساً بعد هذا
الفيلم، إلا أن قيمة هذا الفيلم لم تقل مع الوقت، فهو يتصدر قوائم أفضل
الأفلام في تاريخ السينما لدي كثير من النقاد والسينمائيين وأثره مشاهدته
باق فى أذهنة كل ما شاهده، فما هو السبب فى ذلك؟
يدور الفيلم حول امرأتين تحملان نفس الاسم، واحدة تعيش في بولندا والأخرى
في فرنسا. لا تعرفن بعضهن، لكن يجمع حياتهن رابط شعوري غامض يتعدى حدود
اختلاف المكان واللغة.
تعددت أسباب شهرة الفيلم، بين قصته الفريدة، والتى تحمل فى طياتها، عناصر
خيالية وأجواء ساحرة تجعله أقرب إلى الواقعية السحرية منه إلى الدراما،
وبين تفسير أحداثه ونهايته التى اختلف على تفسيرها الكثيرين، وبين جودة
عناصره السينمائية التى جعلت من مشاهدة الفيلم، حالة شعورية فريدة.
سنحاول هنا قراءة الفيلم بشئ من التفصيل، فى محاولة لشرح أسباب تفرده.
أقرأ أيضًا: بناء على ترشيحات القُرّاء: مسلسلات كورية من أبدع ما أنجبت
الدراما الآسيوية!
"تأثير الفراشة"
تأثير الفراشة هي نظرية فيزيائية وفلسفية مضمونها إنه يمكن لحدث بسيط في
أوله، أن ينتج سلسة من التغيرات والنتائج المتتالية والتي يفوق بكثير حجم
حدث البداية، ومصطلح (تأثير الفراشة) هو مصطلح مجازى يستخدم للتمثيل عن
النظرية وأصله أن رفرفة جناح فراشة في الصين قد ينتج عنه فيضانات وأعاصير
ورياح في أمريكا أو أوروبا أو أفريقيا). بالطبع هو مثال مبالغ فيه لكنه
يوضح فكرة النظرية التي لطالما شغلت بال الكثير من العلماء والأدباء
والفنانين وأحد هؤلاء الفنانين الذين شغلتهم هذه الفكرة هو المخرج
البولندي (كريستوف كيشولفسكي) والذي أصبحت هذه الفكرة هم يشغله عبر عنه
في عدد من أفلامه.
أول هذه الأفلام هي "صدفة عمياء" والذي يتضمن ثلاثة سيناريوهات مختلفة كل
الاختلاف لحياة نفس الشخص، فالفيلم يعرض حياته فور قيامه باختيار ما وهو
ركوب القطار، ويعرض ثلاث حيوات محتملة في حالة ما إذا لحق القطار أو لم
يلحقه أو لم يلحقه وقبض عليه. اختيار أو حدث بسيط مثل ركوب القطار، يغير
حياته وشخصيته بشكل جذري في كل مرة.
"الحياة المزدوجة لفيرونكا" هو الأخر يستعرض تلك النظرية فالفيلم ظاهرياً
عن فتاتين تطابق حياتهما بشكل غريب على الرغم من اختلاف لغاتهم وجنسيتهم،
لكن يمكن النظر إليهما على اعتبار إنهما نفس الشخص، لكن ما غير من
حياتهما هو اختيار الفتاة الأولى أن تقوم بفعل ما هو الغناء مما تسبب عنه
موتها بسبب ضعف عضلة قلبها أم الفتاة الثانية فتتراجع عن خطوة الغناء
وتكتفى بكونهما مدرسة غناء للأطفال في المدرسة.
الفيلم إذا يعرض حياة فيرونكا باحتمالين، الاحتمال الأولى الذي تقرر فيه
أن تسعى وراء حلمها بالغناء لكن حياتها تنتهي نتيجة لذلك، أم الاحتمال
الثاني الذي تتراجع فيه عن حلمها وبالتالي تستمر في العيش أو بكلمات
أخرى، تنجو من الموت.
"إعادة البحث"
ما يدعم هذا التحليل أو القراءة للفيلم، هو اختيار السرد الذي قام به
كيشلوفسكى، فالفيلم لا يعرض الحياتين بالتوازي، بل أنه يختار أن يعرض
القصتين بالتبعية، قصة فيرونكا الفرنسية فور انتهاء قصة فيرونيكا
البولندية، والمثير للاهتمام هو أن قصة فيرونيكا الفرنسية تبدأ باختيارها
أن تتخلى عن حلمها بالغناء وكأن القصة تبتدأ عن النقطة التي فرقت حياتهما
عن بعض وهو الحدث أو الاختيار الأكبر الذي ينتج عنه إما موتها أو حياتها.
كيشلوفسكى أيضاً استخدم نفس التكنيك في السرد في فيلمه الأسبق "صدفة
عمياء" حيث كان أنه الفيلم له مقدمة مع شخصية بطله الرئيسي وعندما يصل
إلى نقطة الاختلاف وتحديد الاختيار، أي ركوب القطار، نتابع متتابعات
ودلائل الاختيار حتى ينتهي تمامً ثم نعود إلى نفطة المفترق من جديد وهكذا
لثلاث مرات.
وفى ضوء ما سبق، يمكن النظر إلى فيرونكا الفرنسية على إنها إعادة بعث
لفيرونيكا البولندية بعد موتها، وبالتالي فأنه قصة العرائس هنا يمكن
النظر لها بشكل مختلف.
تحضر فيرونكا عرض للعرائس، قصته تدور حول لاعبة باليه تكسر قدمها، أي
تموت ثم يعاد إحيائها مرة أخرى في شكل فراشة. من السهل الربط بين قصة
العرائس وحياة فيرونكا وهذا ليس إفراطاً في التحليل، فمشهد العرض تفرض له
مساحة واهتمام كبير في الفيلم، بل أن لعبة العرائس تتكرر مجدداً في
النهاية، عندما يخبرها أليكساندر، لاعب العرائس بقصته الجديدة التي تدور
حول فتاتين يحملان نفس الاسم، تتأثر حياتهما ببعضها البعض.
"لست وحدي في هذا العالم"
من المثير للاهتمام هو ردة فعل فيرونيكا الفرنسية في النهاية عند
اكتشافها لوجود شبيهتها، فنحن رأيتهما مسبقاً وهي تبكي وبررت ذلك بأنها
شعرت بأنها فقدت شخص لكنها لا تعرف من، لكن عند معرفتها بوجود شبيهتها،
تتدخل في موجة بكاء مجدداً، فلماذا؟ هل لأنها فهمت أخيراً من الشخص الذي
خسرته؟ أم لأنها فهمت السبب وراء إحساسها الدائم بأنها ليست وحدها في هذا
العالم؟
جملة "أحياناً أشعر بأني لست وحدي في هذا العالم" تكررت عدة مرات خلال
الفيلم وعلى لسان كل من الفتاتين، الإحساس الدائم بأنه هناك أحد ما أو
شيء ما غامض يعطي كل من الأخرى إشارات أو دلالات تحثهم على أخذ قراراتهم
وبناء على ذلك، فيرونيكا دائما ما كانت ترمي بنفسها إلى المجهول كأنه
مغامرة، دائما ما كانت بانتظار الغريب، سواء كانت شبيهتها أو ألعاب
أليكساندر أو صديقتها التي تطلب منها أن تشهد زوراً أو حتى العجوز التي
ترغب بمساعدتها في مشهد يتكرر بشكل متماثل تقريباً مع الفتاتين أو حتى
رجل لا تعرفه، يتأملها وهي تجلس.
وما كان يحثها على ذلك كانت في واقع الأمر غرائزها، لكنها أحبت فكرة كونه
شيء غامض لا يمكن تفسيره، لذلك عندما استطاعت تفسير ذلك عندما علمت بوجود
شبيهتها، تضايقت، تماماً كما تضايقت عندما عرفت سر لعبة أليكساندر، فصحيح
أنها شعرت بالإهانة لأنه تلاعب بها لكنه في نفس الوقت، أنهى لعبة الغموض،
بإعطاء تفسير لدوافعه.
أقرأ أيضًا: "هيا الشعيبي" تستعد لتقديم مسرحية "عودة ريا وسكينة" في عيد
الفطر القادم
"ما الذي أريده حقاً؟"
هذا السؤال الذي سألته فيرونيكا البولندية لوالدها بعد أن أخبرته بأنها
تشعر بأنها ليست وحيدة في هذا العالم.
أزمة الهوية لدى فيرونيكا هي المحرك الأساسي لكل أفعالها، فرحلتها في
الأساس ليست عن شبيهتها بل عن ذاتها، عن اكتشافها لذاتها. فيرونيكا شخصية
أعقد بكثير مما تبدو، ومثلها مثل كل البشر، تبحث عن النشوة، سواء عن طريق
الحب أو عن طريق تحقيق حلمها بالغناء أو عن طريق البحث عن المجهول، كلها
أفعال غرائزية قامت بها للوصول لتلك النشوة، لذلك عندما تكتشف زيف هذه
الأفعال، تشعر بالحزن والحسرة، ربما لأنها كانت بانتظار تفسير أكبر وأقوي
أو لأنها لم ترد تفسيراً من الأساس.
نهاية الفيلم، عندما تترك فيرونيكا أليكساندر فور إخباره لها بموضوع
مسرحيته، ثم ذاهبها إلى بيت والدها، وتجلس في سيارتها لتلمس الشجرة التي
أرتها لها أمها في طفولتها، كانت تخبرها كيف أن مواسم الطقس المختلفة
يمكنها أن تغير من حالة أوراق الشجر، يمكن ربط هذه المقولة بسهولة مع
نظرية تأثير الفراشة، وعودة فيرونيكا لهذه المكان، يكشف فهمها لذلك، وكيف
لكل فعل صغير من الممكن أن تكون قد فعلته أو فعل لم تفعله، أن يغير من
مسار حياتها، فالآن عليها التفكير في السؤال الذي لطالما هربت من الإجابة
عليه، من أنا؟ وما الذي أريده حقاً؟
"الإحساس أبقى من العقلانية"
هل تضايقت فيرونيكا لأنها فهمت سر غرائزها؟ أم حزنت لأنها أدركت أن وجود
شبيهة لها يعنى ضمنياً إنها ماتت؟ هل تأملها للشجرة في نهاية الفيلم يعنى
أن وفاة شبيهتها ذكرها بوفاة أمها؟ هل تركت أليكساندر لأنها شعرت بالضيق
بسبب تلاعبه بها؟ أم لأن أنهى لعبة الغموض؟ أم لأنه استطاع تحقيق حلمه في
الوقت الذي لم تستطع هي أن تفعل نفس الشيء؟
في حقيقة الأمر أنه يمكن لكل شخص شاهد الفيلم، أن يخرج بتفسير مختلف كل
الاختلاف لأحداثه ونهايته، عن الشخص الآخر، بل ويجد مما شاهده، ما يدلل
على رأيه أيضاً. ما يميز هذا الفيلم حقاً ليس ما ناقشه من أفكار، بل كيف
عبر عنها بكل رقة وعذوبة وبدون مباشرة أو سطحية.
يمكن أن نختلف عن فهمنا للفيلم، لكن من المستحيل أن نختلف على تلقينا له
وإحساسنا به، فكيشلوفسكي هنا، وعن طريق توظيف كل العناصر السينمائية من
تصوير ومونتاج وموسيقى وبالطبع أداء تمثيلي، ببراعة وحساسية شديدة، ينجح
في خلق رحلة شعورية تصل لمن يختبرها بالنشوة، نشوة شعورية مدتها ساعة
ونصف، نتشارك فيها مع فيرونيكا، في فرحها، وآلمها، وحزنها، وصدمتها،
وحيرتها أيضاً.
ولكل هذه الأسباب، فليس من المبالغة بأن نصف "الحياة المزدوجة لفيرونيكا"
بأحد التحف السينمائية، وأحد أكثر الأفلام، رقة وعذوبة وشاعرية.
أقرأ أيضًا: أهم الأفلام الهندية في 2018 وZero في الصدارة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق