لا تعتبر حكاياتُ الأوطان واللجوء في الروايات العربيَّة والنصوص
السرديَّة بالمعالجة الجديدة، وناقشت إضافةً إلى ذلك، الكثير من تلك
النصوص مفهوم الأقليَّات داخل الأوطان التي تتعرّض لمحاولات التطهير
بشكلٍ مستمرّ، كما وناقشت الروايات بمجملها مفهوم العزلة، أن يكون الفرد
معزولاً ومغترباً في وطنه، أو يختار الأشدّ فتكاً وقسوةً وهو اللجوء.
وهذا ما فعله الروائي والصحافيلا تعتبر حكاياتُ الأوطان واللجوء في
الروايات العربيَّة والنصوص السرديَّة بالمعالجة الجديدة، وناقشت إضافةً
إلى ذلك، الكثير من تلك النصوص مفهوم الأقليَّات داخل الأوطان التي
تتعرّض لمحاولات التطهير بشكلٍ مستمرّ، كما وناقشت الروايات بمجملها
مفهوم العزلة، أن يكون الفرد معزولاً ومغترباً في وطنه، أو يختار الأشدّ
فتكاً وقسوةً وهو اللجوء. وهذا ما فعله الروائي والصحافي الأريتري "حجي
جابر" 1976، لكن باختلافٍ ما، حين استطاع الإمساك بتلك التفاصيل عبر
روايته الموسومة بـ "رغوة سوداء " الصادرة عن دار التنوير خلال العام
2014 والحاصلة مؤخَّراً على جائزة كتارا المرموقة للرواية العربيَّة خلال
عام 2019.
الهجرة غير الشرعية .. رحلة الموت والمصير المجهول، وأثرها على الطرفين
سنسلّط الضوء في هذا المقال على حكاية الرواية وأسلوبها السرديّ.
الروائي حجي جابر وروايته: "رغوة سوداء"
حكاية رغوة سوداء
تذهبُ الروايةُ بالقارئ خلال 256 صفحة إلى أماكن ووجهاتٍ مختلفة، تبدأ من
أريتريا، مروراً بأثيوبيا، ووصولاً إلى حيّ في تل أبيب. هذه الدورات
الزمانيَّة والمكانيَّة المختلطة التي يوجَّه الكاتبُ من خلالها دفَّة
الحكاية نحو العدم والسوداوية المُفرطة التي غدت حقيقةً وواقعاً لا
التباس فيهما، والتشبّث بالوهم والمجهول.
رحلةُ بطل الرواية "داوود" نحو العدم واللاجدوى وفراره من الأوضاع، أن
يحاول شخصٌ ما في هذا العالم البحثَ عن مأوى دون أن يخاف، أو أن يبحث عن
الحب دونَ خوفٍ من الموت، كلّ ذلك عبر مزجٍ بين ما هو حقيقي وما هو
متخيَّل، أو ما هو تاريخي موثَّق وما هوَ من نسج خيال الشخصيات داخل هذا
العمل الروائيّ الحكائي بامتياز.
تتمحور الحكاية أيضاً حول جانبٍ من إرث أريتريا التاريخيّ، هذه البقعة
الجغرافيَّة المُهمَلة والمهمَّشة تقريباً من العالم العربي، لتكون
الروايةُ بذلك حكاية الهجرة من أفريقيا، دون الإفصاح عن السبب الرئيسي
لهجرة البطل من أريتريا.
تدور الرواية حول تضحية البطل بكل أحلامه حين بدأ يحلم بعالمٍ أفضل،
عالمٌ وهميٌّ لا يمكن اللحاق به في كلّ الأحوال، وهذا ما دوَّنهُ الناشر
على الغلاف الخلفي محاولاً اختزال الحكاية وتكثيفها:
منطلقاً من الخلفية التي دفعت يهود الفلاشا إلى الهجرة إلى إسرائيل، يسرد
حجي جابر حكاية البؤس الذي يدفع بالشباب في البلدان الفقيرة إلى بذل كل
شيء في سبيل الهجرة إلى مكانٍ يعتقدون أنَّه يؤمِّن لهم فرصةً أفضل في
الحياة"، لكن دائماً التراجيديا المؤلمة تكون هي النهاية التي يصطدم بها
بطل "رغوة سوداء".
ما لا تعرفه عن الجولان السوري: ما هو تاريخه وما سبب أهميته؟
سرد الحكاية
تقنية جابر الحَكائيَّة تتراوح فيما بين السرد اللامباشر وبين السرد
الممزوج بنزعة توثيقيَّة، هذا الدفاع المستميت عن الناس البسطاء في وجه
الديكتاتوريَّة الإريترية التي تجسّد أيّ دكتاتوريَّة في أي بقعةٍ من هذا
العالم، الأمر الذي يضفي على طريقة السرد وأسلوبه نزعةً تأريخيَّة
أرشيفيَّة، تُفضي في النهاية إلى شرح تكوين مراحلَ تاريخيَّة لهذا البلد
عبر شخصيَّةٍ واحدة، تحاولُ قدر الإمكان إقناعَ القارئ بالاستبداد
الحاصل، فليست رحلة لجوء البطل سوى انعكاساً لحال مئات الآلاف من
الباحثين عن جنَّةٍ حياتيَّةٍ في مكانٍ ما، بعيداً عن القتل والتشريد
والتجويع والإنكار، إنكار الهويَّات، إنكار حقِّ العيش.
إنّ تعدّد أسماء البطل "داوود، داويت، ديفيد" على إثر هجرته ومحاولته
الحثيثة إيجاد المكان الملائم ووصوله اللامتفق عليه إلى بقعةٍ غريبةٍ عن
العالم العربي، إسرائيل! أو أرض الميعاد وفق ما يروَّج عن هذا المكان
دينيَّاً وسياسيَّاً، أو بصورة أبسط، المكان الذي يحقّق له أدنى مستويات
العيش الكريم، ليس إلّا تعدداً للهويَّات، وانقساماً متعباً لشخصيَّةٍ
واحدة، تكاد أن تصاب بانفصامٍ ما، نراه يلوحُ في الأفق من خلال الغوص في
القراءة، كما أنّ ابتعاد جابر في تقنياته السرديَّة عن التمحور حول أنا
المؤلّف، تمنح الروايةَ بعداً إنسانيَّاً، فروايات اللجوء والحديث عمّا
يرافقُ اللجوء من غبنٍ وظلم كثيرة، سوى أنَّ "رغوة سوداء" نجحت عبر سردها
غير الأنانيّ في توضيح معاناة شعبٍ كامل ولكن متجسِّد في شخصية البطل،
دون أن تتمحور الأحداث حول شخصيَّة المؤلّف، أي أنّ المؤلّف حاول في هذا
العمل النأي بنفسه عن أن تكون أناهُ على صلةٍ بالأحداث وأسلوب السرد
والتفاصيل المتبقية، ما يجعل من النص السرديّ صلباً ومتوازناً ومبتعداً
عن الأسلوب العاطفيّ أو النرجسيّ.
أسلوب رغوة سوداء
ينقسم الأسلوب داخل العمل إلى نقطتين هامّتين:
الأولى تتلخّص بـ : الأسلوب الأدبيّ المكثّف الذي استخدمه الروائي في سرد
الحكايات المتداخلة، والتي تودي كلّها في نهاية المطاف إلى حكاية واحدة
ملخَّصة بعبارةٍ واحدة وهي: "البؤسُ الأزلي".
النقطة الثانية متمثِّلة بـ : البعد التاريخي الحقيقيّ لمرحلة ربمّا لا
تزال سارية لشعبٍ يعاني من الظلم وانعدام السُبل للتخلّص من حياة بائسة
مفروضة عليه.
الأسلوب الأدبيّ المكثَّف الذي اتّبعه جابر في العمل استند إلى تقنية
الحكي المُفيد، أو ما يمكن أن نشرحه ها هنا بـ الكلام المتّزن بعيداً عن
البهرجة وأساليب الالتفاف على القارئ لأجل كسب تعاطفه، فيما النقطة
الثانية مكمِّلة للأولى، التاريخ لا يمكن تزويره، أو الالتفاف عليه،
المعاناة والبؤس في خلق البطل لقصصٍ في محاولةٍ لإقناع دوائر الهجرةِ في
العالم الأوروبي أن يتقبّلوه وهو الإريتري الأسود، اللون المرفوض تقريباً
في دوائر الهجرة الأوروبيَّة، حتَّى وإن زوَّر البطل التاريخ أو اختلق
قصصاً من الماضي الاستبدادي السحيق، فإنّ الحقيقةَ لا تغيب، الحقيقةُ
المُرَّة الظالمة التي دفعت بشابٍّ إلى تغيير اسمهِ -أو ربمّا الظروفُ هي
من حتمت عليه هذا الفعل مُجبراً- والبحث عن مكانٍ آخر في هذا العالم،
دونَ أن يكون بإمكانه تغيير ذاكرته مهما حاولَ ذلك، فالذاكرةُ تبقى كما
هيَ، ولا يمكن لها أن تتبدَّل مهما حاول البطل:
قبل الحكاية يجب أن يبدو شكلك مقنعاً، سترتدي صليباً كبيراً تتحسّسهُ
أثناء المقابلة، وقبيل الإجابة عن كلِّ سؤال. عليك أن تبدو منكسراً،
خافضَ الرأس، يخرج صوتكَ مخنوقاً متحشرجاً، ثمّ وفي نقطةٍ ما لا بدّ أن
تبكي بحرقةٍ وألم.
هذا المقتطف المكثَّف من العمل، يلخّصُ رحلة اللجوء ومحاولة إقناعَ الآخر
الأوروبيّ بذاكرة الأريتيريّ المضمّخة بالألم والدم والقلق الوجودي،
والتي هي ليست إلّا انعكاساً لذاكرة كل فردٍ قابعٍ تحت الإذلال والإمحاء
والتسلُّط، ثمّ يُكمل السرد:
حين تبكي، يجب أن تفعل ذلك بصدق حتى يُصدّقك المحقق. تذكَّر كل أوجاعك
ومآسيك. استجمع أمامك كل أهوال الدنيا التي مررت بها وابتلعها حتى تظهر
على ملامحك.
يعيشون بيننا ولا نعرف عنهم الكثير … ماذا تعرف عن الشركس؟
رواية التاريخ
تكاد "رغوة سوداء" كعملٍ روائي أدبيّ، أن تكون مُكَمِّلاً لعمل التأريخ
كذلك، حيثُ التوثيقُ الممزوجُ بلغةٍ سلسةٍ، توصِلُ المعنى دونما التفافٍ
حول القارئ، أو محاولَةٍ لجرِّه إلى متاهات الحَكي والسرد بلا طائل،
فالحقيقةُ واضحة، ظلمٌ وأسى دفعا بالشخصيَّة الروائيَّة إلى البحث عن
ملاذٍ آمنٍ، لذا ما من داعٍ لابتكار أسلوبٍ ما، فالحقيقةُ هي أكثرُ
الأساليبِ وضوحاً ووصولاً، وأشدُّها تأثيراً على الوعي.
روايةُ رغوة سوداء تدوين للتاريخ ومن ثمَّ البحثِ عن آخر، البحث عن ملاذٍ
آمنٍ في مكانٍ ما وسرد التاريخ بهدوء، وإمَّا انتظارِ الموت والقتل على
يد رجال الأمن والسلطة والمخابرات، وما يحمله الفراغُ بين تلك النقطتين
من قتلٍ وتشريدٍ وإنكارٍ وغُبن.
من هو الطيب صالح الذي يحتفي محرك البحث Google بعيد ميلاده؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق