عندما تعرف أن كاتب فيلمنا اليوم هو (تشارلي كاوفمان) صاحب قصة كلٍ من (Being John Malkovich) و (Eternal sunshine of a spotless mind) ستعرف أنّنا حتمًا أمام فيلم مُختلف، مُعقد و عميق وساخر و مُربك. ولكن دعني أُبسّط لك الأمر في جملة واحدة: قصة الفيلم هي عن قصة صنع فيلم من قصة لا تصلح لفيلم . نعم، إنّه ببساطة (تشارلي كاوفمان) يا سادة.
قبل أن نتحدث عن قصة الفيلم، لابد أن نبدأ من قبل البداية، عندما تسلّم (تشارلي كاوفمان) الكاتب كتاب (سارق الأوركيد) للكاتبة (سوزان أورلين) ليُحَوّله إلى نص سينمائي لفيلم سيقوم بإخراجه (سبايك جونز)- وهو الذي أخرج فيلم (أن تكون جون مالكوفيتش) أيضًا- ليجد نفسه لفترة غير قادر على كتابة أي شيء. فبرغم عذوبة الكتاب واستمتاعه بقراءته، إلا أنّه لا يوجد به خط درامي أو حتى قصة يُمكن أن يُبنَى على أساسها فيلم، وبه كمية كبيرة من المعلومات حول زهور الأوركيد. فكيف يكتب نصًا لفيلم عن الأزهار فقط؟
فيُقرر عندها أن يفعل شيئًا عبقريًا، وهو أن يكتب عن كاتب اسمه (تشارلي كاوفمان) غير قادر على أن يحط حرفًا في النص السينمائي الذي يكتبه، والمأخوذ عن كتاب (سارق الأوركيد) للكاتبة (سوزان أورلين)، والذي سيقوم بإخراجه من؟ المخرج (سبايك جونز) طبعًا. إن لم تكن شاهدت الفيلم فتوقف عن القراءة هنا وشاهد إعلان الفيلم.
القصة الحقيقية لـ (سارق الأوركيد)
ستختلط الحقيقة بالخيال لفترة ونحن نشاهد الفيلم وهو ما أعطى مُتعة فائقة خاصةً للمُشاهد الذي ينتبه للتفاصيل، لأنه سيظل يتساءل أين الحقيقة وأين الخيال فيما يرى؟
هل فعلًا (تشارلي كاوفمان) يرى نفسه كما جَسّدهُ (نيكولاس كيدج)؟ وماذا عن أخوه التوأم (دونالد كاوفمان) والذي يقوم بدوره (كيدج) أيضًا؟ سنعتقد جميعًا أنّه شخصية حقيقية عندما نعلم أنّ (تشارلي) كتب اسم (دونالد) بجوار اسمه على سيناريو الفيلم، وأيضًا لأنهما ترشّحا معًا لجائزة الأوسكار لأفضل نص مأخوذ عن عمل أدبي عام 2003.
ماذا عن شخصية (لاروش) المُلهمة وماذا عن علاقته بـ (سوزان أورلين) الحقيقية؟ وهل التهمته التماسيح فعلًا؟
أغلب الظنّ أنّ (كاوفمان) في الفيلم قريب جدًا من شخصية (كاوفمان) الحقيقية، فهو موهوب بشدة ومُبدع، ولكنه خجول ومُتردد و مُنطوي، يهتم لرأي الناس في كتابته ويهتم بأن يحصل على إعجاب من حوله. أمّا (دونالد) فالمفاجأة هنا أنّه شخصية مُختلقة وليست حقيقية، ولا نعلم حقيقةً كيف تترشّح شخصية خيالية للفوز بالأوسكار.
الجدير بالذكر أنّ الأبطال الرئيسيين الثلاثة قد ترشحوا جميعًا لجائزة الأوسكار، (كيدج) عن أحسن ممثل في دور رئيسي، و (ميريل ستريب) التي قامت بدور (أورلين) عن أحسن ممثلة مُساعدة، وفاز بها (كريس كوبر) الذي أدى شخصية (لاروش) الساحرة لأحسن ممثل مساعد.
أمّا (سوزان أورلين) فهي كما ذكر الفيلم تمامًا، صحفية في جريدة (نيويوركر)، كتبت مقالًا عن (جون لاروش) وحوّلته فيما بعد إلى كتاب أسْمَتهُ (سارق الأوركيد). عندما عرض عليها (كاوفمان) أن يستخدم اسمها الحقيقي في الفيلم رفضت في البداية، ولكنه تمكّن من إقناعها أخيرًا. وعندما تم سؤالها عن علاقتها بـ (جون لاروش) أكدّت أنها لم تكن علاقة حميمية أبدًا وأنّها كانت علاقة إنسانية انتهت بانتهاء الكتاب، تماماً كما ذكرت سوزان لـ (دونالد) في الفيلم.
إن كنت مُهتمًا أكثر بقصة (سوزان) الحقيقية، ستجد هنا تفريغ لإحدي المقابلات معها حول الكتاب والفيلم. وهاهي صورة لـ(أورلين) الحقيقية بصحبة سارق الأوركيد الحقيقي (جون لاروش)
أمّا (روبرت ماكي) والذي هو رائد في تقديم محاضرات وورش كتابة النصوص السينمائية، فهو شخصية حقيقية موجودة بنفس الاسم ونفس الصفة وهو الذي رشح الممثل (برايان كوكس) للقيام بدوره.
وأخيرًا.. لا لم تلتهم التماسيح (جون لاورش) كما حدث في الفيلم. كان هذا فقط من إبداع (تشارلي كاوفمان) الخالص.
لماذا Adaptation؟
كلمة Adaptation تعني : التهيئة، التَكيّف، المُلائمة، الإعداد أو التعديل. وهو عنوان ذكي جدًا لأن (كاوفمان) استخدمه بكل معانيه تقريبًا في الفيلم لذا فهو يُلخص كل شيء.
يشرح مقال نورمان هولاند كيف استخدم (تشارلي) هذا العنوان في الفيلم على أربعة أوجه مُختلفة كالآتي: أولًا: عندما أراد (كاوفمان) "إعداد" كتاب (اورلين) ليقوم بتحويله إلى فيلم سينمائي. ثانيًا: "التكيّف" بمعناه العلمي كما تخيله (كاوفمان) يحدث في التاريخ البشري. ثالثًا: التكيّف من وجهة نظر (لاروش) والذي تحدث عنه طويلًا لـ (سوزان) وعن كيف أنها عملية مُعقدة، وكيف مثلًا "تتلائم" الحشرات مع الأزهار التي تقوم بتلقيحها . وأخيرًا: فكرة "تواؤم" (تشارلي) نفسه مع "ما تُفضّله هوليوود" برغم رفضه للفكرة سابقًا.
بين الحقيقة والخيال
أعتقد أنّ كل من شاهد الفيلم قد مرّ بصدمة عند تحْول الأحداث الفجائي والذي غيّر طبيعة الفيلم الدرامي الهادئ المُفعم بالأفكار، والذي يحوي كوميديا طفيفة إلى فيلم مُثير وعنيف حيث توجد مطاردات بالسيارات وأسلحة نارية ومخدرات وعلاقات مُحرّمة.
الطريف أنّ (تشارلي كاوفمان) الشخصية في الفيلم كان يُريد أن يصنع فيلمًا مُختلفًا بعيدًا عن كل الإضافات التقليدية التي يضعها كُتّاب السيناريو عادًة في هوليوود لجذب الانتباه وذكر حرفيًا : "كاستخدام الأسلحة النارية والمخدرات ومطاردات السيارات".
"حتى لو كان لديك فيلمًا مُملًّا وغير مُترابط الأحداث، يُمكنك أن تجعله يُحدث ضجة فقط بنهاية غير متوقعة."
كانت هذه نصيحة (روبرت ماكي) لـ (كاوفمان) والذي أيضًا أخبره أنّه ليس مهمًا أن يكون للكتاب قصة حتى، فبإمكان (تشارلي) أن يصنع واحدة ويضع لها نهاية صادمة.
وهذا يقودنا بالتبعية لفكرة أخرى: هل هذا هو ما حدث فعلًا مع (تشارلي كاوفمان) الكاتب الحقيقي؟ هل حاول أن يكتب فيلمًا عن الأزهار فحسب كما في الكتاب، ولكنه وجد نفسه يخضع للفكر التجاري ويُجْبَر على أن يُضيف هذه الأحداث الصاخبة إلى فيلمه، ففعل ذلك في الثُلث الأخير من الفيلم؟ هل صنع قصّة من لاقصّة ؟
قال الناقد الكبير (روجر إيبرت) في مقاله عن الفيلم أنّه يمكن اعتباره فيلمًا عن قصة صنع فيلم، وأيضًا فيلمًا عن سرقة الأوركيد ونظريات المؤامرة، وأخيرًا يرى به مزجًا مخادعًا بين الحقيقة والخيال.
(كاوفمان) وهو يكتب نفسه
لم يكتفِ (تشارلي كاوفمان) أن يكتب نفسه في فيلم، بل تمادى وكتب نفسه وهو يكتب نفسه، فرأينا ضعفه، حواره السلبي مع ذاته، شكوكه، ونظرته الدونية لنفسه أيضًا. فكان يقول:
"أنا كالحيّة التي تلتهم ذيلها، كتبت نفسي في النص الذي أكتبه. ياللنرجسية، ياللبؤس."
حتى إنّه تمكن من إقناع (سوزان أورلين) باستخدام اسمها الحقيقي بهذه الفكرة، وهي أنّه قدم نفسه في الفيلم بهذا الشكل المُزري ليراه العالم أجمع ولم يخجل. فقررت أن تتحلى بالشجاعة هي الأخرى.
لهذا هو من نوعية الأفلام التي تعجب النقاد لكمّ المفارقات بين حقيقة ما حدث مع (تشارلي كاوفمان) الكاتب وكل ما يخص أفكاره وشخصيته وحياته، وبين شخصية (تشارلي كاوفمان) في الفيلم. لذا فالفيلم نفسه يتغذي على نفسه، بالضبط كالحيّة التي تلتهم ذيلها. ناهيك عن شخصية (دونالد) المُناقضة له تمامًا. فهل كان (كاوفمان) يتمنى أن يكون مثله، لامبالِ وجريء وأكثر اجتماعية وأكثر مرحًا؟
المشهد الذي تم فيه إقحام جزء من تصوير فيلم (أن تكون جون مالكوفيتش) مشهد عبقري، ربما لأنه يصور مالا يُمكن لـ(تشارلي) أن يفعله، أن يرى كل شيء ويسمع كل شيء، كل كلمة مقروءة أو مكتوبة، كما كان يحدث في الفيلم. فهل (كاوفمان) لديه عقدة الأديب هذه الذي يتمنى معها أن يُحيط علمًا بكل شيء ويملك كل الأجوبة؟ ربما.
قصة الشغف
القصة كلها تبدأ بفكرة "الشغف" وتنتهي عندها. فنجد (تشارلي) الشغوف بالكتابة، و(دونالد) الشغوف بفكرة أن يصبح كاتبًا. شغف (لاروش) بالأزهار أثار إعجاب (أورلين) به. وهذا هو الشغف نفسه الذي شعر به (تشارلي) نحو (أورلين) حين قرأ كتابها ومسّت كلماتها قلبه.
أمّا (سوزان) فكانت تفتقد للعاطفة والشغف في حياتها، هي تريد أن تسعى وراء شيء لا تعرف ما هو حقًا، قادها الحظ لمقابلة (جون لاروش) الغريب الأطوار والذي يتمتع بذكاء وجرأة غير معهودين لرجلٍ مثله. وأدهشها شغفه بأزهار الأوركيد فتبعته. وعندما دعاها ليُريها زهرة الأوركيد النادرة المُلقبة بالشبح، وهي مهمة لم تكن سهلة، أحسّت بالإحباط الشديد فهي كانت على حد قولها "مجرد زهرة". لم تُشبع رؤية هذه الزهرة عطش روحها الذي لا تعرف له ارتواءًا.
رأينا (سوزان) قد وجدت شغفها أخيرًا وهو الشيء الذي وجدت نفسها قد تقتل في سبيله أي انسان يمنعها عنه. تمثّل شغفها هذا في علاقتها بـ (جون لاروش) و أيضًا تعاطيها للمخدِر الناتج عن سحق زهور الأوركيد.
النهاية لم تأتي في صف أحدًا سوى (تشارلي) الذي تمكن من أن يبدأ حياة جديدة. بينما انتهى أمر كلٍ من (سوزان) و(لاروش) و(دونالد).
يقول الكاتب (لوكاس هيلدبراند) أنّ هذا الفيلم لا يتعرّض لعلاقات الناس مع بعضها البعض، بل بين الناس وخيالاتهم، وبين الكُتّاب وكتاباتهم. وهذا كما أرى حقيقي جدًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق